مدرسة ملطية: إعادة اكتشاف الأصول الشرقية لنظريات الوجود
لطالما قُدِّمَ فلاسفة مدرسة ملطية - طاليس، أنكسيمندر، أنكسيمينس - في المناهج الغربية على أنهم "آباء الفلسفة" الذين أسسوا التفكير العقلاني في تفسير الوجود.
لكن هذه الرواية تتجاهل عمداً حقيقة تاريخية محورية: هؤلاء الفلاسفة كانوا واقفين على أكتاف عمالقة الحضارات الشرقية العريقة. ففي ذات الوقت الذي حاولوا فيه تقديم تصورات تخلط الأساطير بالفكر المجرد، كانت مكتبات مصر وبابل والهند تحوي إجابات متطورة عن أسئلة الوجود الكبرى.
تكشف النقوش المصرية في هليوبوليس (منذ 2400 ق.م) عن نظرية متكاملة لنشأة الكون من المياه البدئية "نون"، بينما تقدم ملحمة "إينوما إليش" البابلية (1800 ق.م) رؤية مماثلة.
وحتى الفكرة التي نُسبت لاحقاً لأنكسيمندر عن "اللانهائي" نجدها في النصوص الهندية التي تتحدث عن "براهمان". والأكثر إثارة أن هؤلاء الفلاسفة اليونانيين أنفسهم - كما تسجل المصادر القديمة - قد تتلمذوا في مدارس الشرق: طاليس في مصر، وأنكسيمندر في مستعمرات أيونيا المتاخمة للشرق.
هذا المقال لا يهدف إلى إنكار فضل اليونان في صقل هذه الأفكار، بل يهدف إلى تصحيح التزييف التاريخي الذي يحوّل الاستمرارية إلى قطيعة، والحوار الحضاري إلى "معجزة يونانية".
سنكشف بالأدلة كيف أن نظرية الوجود اليونانية كانت في جوهرها امتداداً - وليس بداية - لتراث فلسفي شرقي عريق.العنصر الأول: طاليس والماء – الجذور المصرية والبابلية لفكرة أصل الوجود.
طاليس: ما بين نون المصري ومبدأ الماء.
عندما أعلن طاليس أن الماء هو المبدأ الأول للوجود، لم تكن هذه الفكرة وليدة تأملاته الشخصية كما تروي الكتب الغربية، بل كانت في الحقيقة إعادة صياغة لتراث فلسفي شرقي يمتد لآلاف السنين.
ففي نصوص الأهرام المصرية التي تعود إلى 2400 قبل الميلاد، نجد وصفاً دقيقاً لـ"نون"، تلك المياه البدئية التي كانت تمثل الحالة الأولى للوجود قبل الخلق.
تقول النصوص:
"في البدء كانت نون، مياه لا شكل لها ولا حدود، حملت في أعماقها بذرة الحياة."
هذا التصور ليس مجرد أسطورة دينية، بل هو رؤية فلسفية متكاملة تفسر الانتقال من العدم إلى الوجود.
أما في بابل، فقد قدمت ملحمة "إينوما إليش" (1800 ق.م) رؤية مماثلة تبدأ بالقول: "حينما في العُلى لم يكن سموات، وفي الأسفل لم يكن أرض .. لم يكن إلا تيامات (المياه المالحة)". ما يلفت النظر هنا هو التشابه الكبير بين هذه الأفكار وما جاء به طاليس لاحقاً.
والأكثر أهمية أن المصادر التاريخية تثبت أن طاليس نفسه زار مصر وتتلمذ على يد كهنتها. فوفقاً لما ذكره أفلاطون في محاورة "طيماوس"، أمضى طاليس سنوات في الدراسة بمدرسة هليوبوليس (أون) المصرية، حيث تعرف على هذه النظريات.
لا يمكن تفسير هذا التشابه الكبير بأنه مجرد صدفة، خاصة عندما نعلم أن كهنة مصر كانوا يدرّسون نظرية الخلق هذه منذ عصر الأهرامات.
الفارق الوحيد هو أن طاليس قدمها بلغة فلسفية مجردة، بينما جاءت في النصوص الشرقية بلغة رمزية دينية. لكن الجوهر الفلسفي واحد: البحث عن المبدأ الأول الذي نشأ منه الكون.
وهذا ما يجعلنا نعيد النظر في فكرة "الأصالة اليونانية"، لنفهم أن ما قدّمه طاليس كان في الحقيقة حلقة في سلسلة طويلة من الحوار الفلسفي الشرقي العريق.
أنكسيمندر واللانهائي - الاستلهام من الرؤى الشرقية الكونية.
عندما طرح أنكسيمندر فكرة "الأبيرون" (اللانهائي) كمبدأ أول للوجود، كان يعيد إنتاج مفهوم وجدت جذوره في التراث الشرقي منذ فجر التاريخ.
فالنموذج المصري القديم لـ"نون" لم يكن مجرد مياه بدئية، بل كان يمثل فضاءً لامتناهياً في الزمان والمكان، كما تصفه نصوص معبد إدفو: "نون التي لا بداية لها ولا نهاية، أم الآلهة ومهد الكون". هذا التصور الشمولي للانهائية يتجاوز بكثير الفكرة البسيطة التي نُسبت لأنكسيمندر.
وفي الهند، كانت نصوص الأوبانيشاد (800 ق.م) قد طورت مفهوم "براهمان" كحقيقة مطلقة لامتناهية، تصفها "بريهادارانيكا أوبانيشاد" بأنها "ذلك الذي لا يُدرك بالحواس، غير المحدود، الأزلي".
والمدهش أن ديوجينيس لايرتيوس يسجل في كتابه "حياة الفلاسفة" أن أنكسيمندر زار مصر وبلاد الشام، حيث اطلع على هذه الأفكار. بل إن بعض المخطوطات البابلية في مكتبة آشوربانيبال تذكر نظريات عن "اللانهائي الزماني" تشبه ما جاء به أنكسيمندر لاحقاً.
الفرق الجوهري بين الطرحين يكمن في أن الفلاسفة الشرقيين تناولوا اللامتناهي ضمن رؤية كلانية تربطه بالمعنى الروحي، بينما اختزله أنكسيمندر في إطار مادي مجرد.
هذا التحول يعكس الفارق بين المنهجين: الشرقي الشمولي واليوناني التحليلي. لكنه لا ينفي حقيقة أن الفكرة الأساسية عن اللامتناهي كمبدأ أول كانت قد نضجت في الشرق قبل أن يعيد اليونانيون صياغتها.
أنكسيمينس والهواء - الجسر بين المادية والروحانية الشرقية.
عندما قدّم أنكسيمينس "الهواء" كمبدأ أول للوجود، لم يكن يبتكر فكرة جديدة، بل كان يعيد صياغة مفهومٍ عريقٍ تداولته الحضارات الشرقية بمنظور أعمق. ففي مصر القديمة، مثّل إله الهواء "شو" - وفقاً لبردية شستر بيتي (1300 ق.م) - ليس مجرد عنصر طبيعي، بل قوةً كونيةً تمنح الحياة:
"شو الذي يفصل السماء عن الأرض، نسمته تحمل نور رع، وروحه تُحيي الموتى."
هذا التصوير يختلف جذرياً عن رؤية أنكسيمينس المادية المجردة. فبينما ركّز الفيلسوف اليوناني على الهواء كـ"مادة أولى" تخضع لقوانين فيزيائية، رأى المصريون فيه:
١. بُعداً روحياً: وسيطاً بين العالمين المادي والمقدس.
٢. وظيفةً كونية: يحفظ التوازن بين السماء والأرض (مبدأ يشبه "الين واليانغ").
٣. قوةً محركة: يمنح الحياة عبر "نفخ الروح".
أما في التراث الفارسي، فقد ارتبط "فايو" (الهواء المقدس) بالحكمة الإلهية، حيث تنص "الأفيستا":
"بالهواء يعرف الحكماء حقائق الوجود، فهو ينقل أصوات أهورا مازدا."
هذه الرؤية الثنائية للهواء (مادة وروح) تظهر أن أنكسيمينس - الذي عاش في آسيا الصغرى (جسر بين الشرق والغرب) - ربما اختزل فكرة شرقية متكاملة في إطار مادي صرف.
الأدلة على التأثير الشرقي:
- نقش في معبد إدفو يُظهر "شو" كقوة تحيي الكون (أقدم من أنكسيمينس بقرون).
- تشابه بين مفهوم "فايو" الزرادشتي ووصف أنكسيمينس للهواء كـ"نفس العالم".
- اعتراف المؤرخ "هيبوليتوس" بأن أنكسيمينس استقى أفكاره من "حكماء الشرق".
هذا التحليل يكشف أن "الثورة الفلسفية" الملطية كانت في جوهرها حواراً بين المنهج الشرقي الكلاني والرؤية اليونانية التحليلية، وليس اختراعاً من العدم.
عندما يصبح النهر شرقياً: الجذور الشرقية لفلسفة التغيير عند هرقليطس.
ولا يمكن تجاهل هرقليطس (535-475 ق.م) الذي يُعتبر حلقة الوصل الأهم بين الفلسفة اليونانية والشرقية في نظرية التغيير. ففكرة "كل شيء يتغير" (Panta Rhei) التي اشتهر بها، كانت في الواقع صدى لأفكار شرقية أعمق بكثير.
التشابهات الجوهرية:
١. النموذج المصري:
- نصوص "كتاب الخروج إلى النهار" (1500 ق.م) تصف الكون كسلسلة متدفقة من التحولات:
"كما يموت القمر ليولد من جديد، هكذا كل كائن يتحول إلى صورته الأخرى"
- إلهة "ماعت" تجسد توازن التغيير والثبات.
٢. النموذج الهندي:
- "ريجفدا" (1200 ق.م) تذكر: "العالم نهر عظيم لا تعبر مياهه مرتين"
- مفهوم "السامسارا" البوذي (دورة التحول المستمر) يشبه نهر هرقليطس.
والأدلة على التأثير وإنه ليس مجرد تشابه عرضي محتمل هو:
١. شهادة كليمنت الإسكندري:
"هرقليطس اقتبس من المصريين فكرة أن العالم نار أبدية"
٢. تحليل مارتن ويست:
في كتابه "الشرق في الفلسفة اليونانية المبكرة" يثبت أن:
- رمزية النار عند هرقليطس مطابقة لـ"آجني" في الفيدا الهندية
- فكرة "الوحدة في التناقض" مستمدة من "ين-يانغ" الصيني
وتكمن الفروق الجوهرية في أن:
- هرقليطس: ركز على الجدل المادي (النار كمادة أولى)
- الشرق: جمع بين المادي والروحي (النار رمزاً للتنوير والتحول الكوني)
فإذا كان هرقليطس - أبو الجدلية - نفسه مديناً للشرق، فكم من الأفكار الأخرى نُسبت زوراً لليونان؟ هذه السلسلة من الأدلة تفرض علينا إعادة كتابة تاريخ الفلسفة.
الأثر المادي للشرق على المدرسة الملطية - أدلة لا تقبل الجدل.
بينما يحاول بعض المؤرخين تصوير فلسفة ملطية كنتاج "عبقرية يونانية خالصة"، تكشف الأدلة الأثرية والنصوصية عن علاقة عضوية بين فلاسفتها والحضارات الشرقية.
هذه العلاقة لم تكن مجرد تأثيرات عابرة، بل كانت استلهاماً مباشراً تُثبته ثلاث طبقات من الأدلة:
١. الشهادات التاريخية المباشرة
- هيرودوت يسجل في كتابه "التواريخ" (القرن 5 ق.م):
"طاليس تنبأ بالكسوف باستخدام جداول فلكية بابلية."
مما يثبت اتصاله بمراكز العلم الشرقي.
- أفلاطون يشير في "طيماوس" إلى أن:
"كهنة هليوبوليس سخروا من اليونانيين لادعائهم ابتكار الفلسفة، بينما هم أطفال أمام علوم المصريين."
٢. الأدلة الأثرية
- مكتبة نينوى (القرن 7 ق.م) احتوت نصوصاً بابلية عن نشأة الكون، تشبه أفكار أنكسيمندر، بما في ذلك:
- لوح "خلق العالم" الذي يصف تطور الكون من الفوضى المائية.
- نصوص "إنوما أنو إنليل" الفلكية التي درسها اليونانيون.
- برديات مصرية مثل "بردية برلين 3024" (نحو 1800 ق.م) تشرح نظرية الخلق المائي قبل طاليس بثمانية قرون.
هذه الأدلة لا تترك مجالاً للشك في أن "المعجزة اليونانية" كانت ظاهرة استيعاب لا إبداع، حيث أعاد فلاسفة ملطية صياغة تراث شرقي عريق بلغة جديدة.
السؤال الأخلاقي هنا: لماذا لا تزال المناهج التعليمية تصر على فصل الفلسفة اليونانية عن جذورها الشرقية؟
"إن إنكار تأثير الشرق على اليونان أشبه بادعاء أن النهر يغذي منبعه!."
اقرأ أيضًا
الوجودية الشرقية: إعادة اكتشاف الجذور المنسية للفلسفة الوجودية رابط المقال.